سورة الكهف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَوُضِعَ الكتاب} عطف على عُرضوا داخلٌ تحت الأمورِ الهائلة التي أريد تذكيرُها بتذكير وقتِها أُورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي دَلالةً على التقرر أيضاً، أي وُضع صحائفُ الأعمالِ، وإيثارُ الإفرادِ للاكتفاء بالجنس، والمرادُ بوضعها إما وضعُها في أيدي أصحابِها يميناً وشمالاً وإما في الميزان {فَتَرَى المجرمين} قاطبةً فيدخل فيهم الكفرةُ المنكِرون للبعث دخولاً أولياً {مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} من الجرائم والذنوب {وَيَقُولُونَ} عند وقوفِهم على ما في تضاعيفه نقيراً وقِطْميراً {ياويلتنا} منادين لهِلَكتهم التي هلكوها من بين الهلَكات مستدْعين لها ليهلِكوا ولا يرَوا هولَ ما لاقَوه، أي يا ويلتَنا احضُري فهذا أوانُ حضورِك {مَا لهذا الكتاب} أي أيُّ شيء له، وقولُه تعالى: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} أي حواها وضبطَها، جملةٌ حاليةٌ محقِّقةٌ لما في الجملة الاستفهاميةِ من التعجب، أو استئنافيةٌ مبنيةٌ على سؤال نشأ من التعجب، كأنه قيل: ما شأنُه حتى يُتعجَّب منه؟ فقيل: لا يغادر سيئةً صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ} في الدنيا من السيئات، أو جزاءَ ما عملوا {حَاضِرًا} مسطوراً عتيداً {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فيكتب ما لم يُعمَل من السيئات أو يزيد في عقابه المستحَّقِ فيكون إظهاراً لِمَعْدلة القلمِ الأزلي.
{وَإِذَا قُلْنَا للملائكة} أي اذكر وقتَ قولنا لهم: {اسجدوا لاِدَمَ} سجودَ تحيةٍ وتكريم وقد مر تفصيلُه {فَسَجَدُواْ} جميعاً امتثالاً بالأمر {إِلاَّ إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجُد بل أبى واستكبر وقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن} كلامٌ مستأنفٌ سيق مساقَ التعليلِ لما يفيده استثناءُ اللعين من الساجدين، كأنه قيل: ما له لم يسجُد؟ فقيل: كان أصلُه جنيًّا {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} أي خرج عن طاعته كما ينبىء عنه الفاءُ، أو صار فاسقاً كافراً بسبب أمرِ الله تعالى إذ لولاه لما أبى. والتعرضُ لوصف الربوبيةِ المنافية للفسق لبيان كمالِ قبحِ ما فعله، والمرادُ بتذكير قصّتِه تشديدُ النكيرِ على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالِهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراءِ المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليسَ وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الخ، فإن الهمزةَ للإنكار والتعجبِ والفاءَ للتعقيب أي أعَقيبَ علمِكم بصدور تلك القبائحِ عنه تتخذونه {وَذُرّيَّتَهُ} أي أولادَه وأتباعَه، جعلوا ذريتَه مجازاً. قال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدمَ، وقيل: يُدخل ذنبَه في دُبُره فيبيض فتنفلق البيضةُ عن جماعة من الشياطين {أَوْلِيَاء مِن دُونِى} فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدَل طاعتي {وَهُمْ} أي والحال أن إبليسَ وذريته {لَكُمْ عَدُوٌّ} أي أعداءٌ كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} وقوله تعالى: {هُمُ العدو} وإنما فُعل به ذلك تشبيهاً له بالمصادر نحو القَبول والوُلوع وتقييد الاتخاذِ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكارِ وتشديدِه، فإن مضمونَها مانعٌ من وقوع الاتخاذِ ومنافٍ له قطعاً {بِئْسَ للظالمين} أي الواضعين للشيء في غير موضعِه {بَدَلاً} من الله سبحانه إبليسُ وذريتُه، وفي الالتفات إلى الغَيبة مع وضع الظالمين موضعَ الضمير من الإيذان بكمال السُخطِ والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلمٌ قبيح ما لا يخفى.


{مَّا أَشْهَدتُّهُمْ} استئنافٌ مَسوق لبيان عدمِ استحقاقِهم للاتخاذ المذكورِ في أنفسهم بعد بيانِ الصوارفِ عن ذلك من خباثة المَحتِد والفسق والعداوة، أي ما أحضَرْتُ إبليسَ وذريتَه {خُلِقَ السموات والأرض} حيث خلقتُهما قبل خلقِهم {وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعض كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} هذا ما أجمع عليه الجمهورُ حِذاراً من تفكيك الضميرين ومحافظةً على ظاهر لفظ الأنفس، ولك أن تُرجع الضميرَ الثانيَ إلى الظالمين وتلتزمَ التفكيكَ بناءً على قَوْد المعنى إليه، فإن نفيَ إشهادِ الشياطين خلقَ الذين يتولَّونهم هو الذي يدور عليه إنكارُ اتخاذهم أولياءَ بناء على أن أدنى ما يصحح التوليَ حضورُ الوليِّ خلقَ المتولى، وحيث لا حضورَ لا مصحِّحَ للتولي قطعاً، وأما نفيُ وإشهادِ بعضِ الشياطينِ خلقَ بعض منهم فليس من مدارية الإنكارِ المذكور في شيء، على أن إشهادَ بعضهم خلقَ بعض إن كان مصحِّحاً لتولي الشاهدِ بناءً على دِلالته على كماله باعتبار أن له مدخلاً في خلق المشهودِ في الجملة فهو مُخِلٌّ بتولي المشهودِ بناء على قصوره عمّن شهِد خلقَه فلا يكون نفيُ الإشهادِ المذكورِ متمحّضاً في نفي الكمالِ المصحِّح للتولي عن الكل وهو المناطُ للإنكاء المذكور {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} أي متّخذَهم، وإنما وُضع موضعَه المظهُر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذِهم أولياءَ {عَضُداً} أعواناً في شأن الخلقِ أو في شأن من شؤوني حتى يُتوهّم شِرْكتُهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكامِ الربوبية، وفيه تهكمٌ بهم وإيذانٌ بكمال ركاكةِ عقولِهم وسخافةِ آرائِهم حيث لا يفهمون هذا الأمرَ الجليَّ الذي لا يكاد يشتبه على البُلْه والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثارُ نفي الإشهاد على نفي شهودِهم ونفي اتخاذِهم أعواناً على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرتِه تعالى تابعون لمشيئته وإرادتِه فيهم، وأنهم بمعزل من استحقاق الشهودِ والمعونة من تلقاء أنفسِهم من غير إحضارٍ واتخاذ وإنما قُصارى ما يتوهم في شأنهم أن يبلُغوا ذلك المبلغَ بأمر الله عز وجل ولم يكد ذلك يكون، وقيل: الضميرُ للمشركين والمعنى ما أشهدتُهم خلقَ ذلك وما أطلعتُهم على أسرار التكوينِ وما خصَصْتُهم بفضائلَ لا يَحويها غيرُهم حتى يكونوا قدوةً للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعُمون فلا يُلتفت إلى قولهم طمعاً في نُصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضِدَ بالمُضِلّين، ويعضُده القراءةُ بفتح التاءِ خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما صح لك الاعتضادُ بهم. ووصفُهم بالإضلال لتعليل نفي الاتخاذِ، وقرئ: {متّخِذاً المُضلّين} على الأصل، وقرئ: {عُضْداً} بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالاتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرَصَد وراصد.


{وَيَوْمَ يَقُولُ} أي الله عز وجل للكافرين توبيخاً وتعجيزاً، وقرئ بنون العظمة {نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ} أنهم شفعاؤُكم ليشفعوا لكم، والمرادُ بهم كلُّ ما عُبد من دونه تعالى، وقيل: إبليسُ وذرِّيتُه {فَدَعَوْهُمْ} أي نادَوهم للإغاثة، وفيه بيانٌ لكمال اعتنائِهم بإعانتهم على طريقة الشفاعةِ إذ معلومٌ أن لا طريقَ إلى المدافعة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} فلم يُغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفي إيراده مع ظهوره تهكمٌ بهم وإيذانٌ بأنهم في الحماقه بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} بين الداعين والمدعوّين {مَّوْبِقاً} اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ من وبَق وُبوقاً كوثب وثوباً وبِق وبَقاً كفرح فرحاً إذا هلَك أي مهلِكاً يشتركون فيه وهو النارُ، أو عداوةً وهي في الشدة نفسُ الهلاك كقول عمر رضي الله عنه: «لا يكن حبُّك كلَفاً ولا بغضُك تلَفاً» وقيل: البينُ الوصلُ أي وجعلنا تواصلَهم في الدنيا هلاكاً في الآخرة، ويجوز أن يكون المرادُ بالشركاء الملائكةَ وعزيراً وعيسى عليهم السلام ومريمَ، وبالمَوْبق البرزخَ البعيدَ أي جعلنا بينهم أمداً بعيداً يُهلِك فيه الأشواطُ لفرْط بُعده لأنهم في قعر جهنمَ وهم في أعلى الجنان.
{وَرَأَى المجرمون النار} وُضع المظهرُ مقام المُضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك {فَظَنُّواْ} أي فأيقنوا {أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعةَ {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} انصرافاً أو معدِلاً ينصرفون إليه.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي كررنا وأوردنا على وجوه كثيرةٍ من النظم {فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ} لمصلحتهم ومنفعتِهم {مِن كُلّ مَثَلٍ} من جملته ما مر مِن مَثَل الرجلين ومثَل الحياةِ الدنيا أو من كل نوعٍ من أنواع المعاني البديعةِ الداعيةِ إلى الإيمان التي هي في الغرابة والحسنِ واستجلاب النفس كالمثل ليتلقَّوْه بالقَبول فلم يفعلوا {وَكَانَ الإنسان} بحسب جِبلَّته {أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً} أي أكثرَ الأشياءِ التي يتأتى منها الجدلُ وهو هاهنا شدةُ الخُصومةِ بالباطل والمماراةِ، من الجدْل الذي هو الفتْلُ، والمجادلةُ الملاواةُ لأن كلاًّ من المجادِلَين يلتوي على صاحبه، وانتصابُه على التمييز والمعنى أن جدَله أكثرُ من جدَل كلِّ مجادل.
{وَمَا مَنَعَ الناس} أي أهلَ مكةَ الذين حُكيت أباطيلُهم {أَن يُؤْمِنُواْ} من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك {إِذْ جَاءهُمُ الهدى} أي القرآنُ العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبةِ له {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} عما فرَط منهم من أنواع الذنوبِ التي من جملتها مجادلتُهم للحق بالباطل {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} أي إلا طلبُ إتيانِ سُنّتهم أو إلا انتظارُ إتيانِها، أو إلا تقديرُه فحذُف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه وسنتُهم الاستئصالُ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب} أي عذابُ الآخرة {قُبُلاً} أي أنواعاً، جمعُ قَبيل أو عِياناً كما في قراءة قِبَلاً بكسر القاف وفتحِ الباء، وقرئ بفتحتين أي مستقبَلاً، يقال: لقِيتُه قُبُلاً وقَبَلاً وقِبَلاً، وانتصابُه على الحالية من الضمير أو العذاب والمعنى أن ما تضمنه القرآنُ الكريم من الأمور المستوجبةِ للإيمان بحيث لو لم يكن مثلَ هذه الحكمةِ القوية لما امتنع الناسُ من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدَل المفْرِط.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12